لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصر العدو ، دخل في حصر النصر ، فعبثت أيدي سراياه بالنصر في الأطراف ، فطار ذكره في الآفاق ، فصار الخلق
معه ثلاثة أقسام مؤمن به ، ومسالم له ، وخائف منه .
ألقى بذر الصبر في مزرعة ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) { الاحقاف 35 } فإذا أغصان النبات تهتز بخزامى ( وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ) { البقرة 194 }
فدخل مكة دخولاً ما دخله قبله ولا بعده ، حوله المهاجرون والأنصار لا يبين إلا الحدق والصحابة على مراتبهم ، والملائكة فوق رؤوسهم ، وجبريل يتردد بينه وبين ربه ، وقد أباح له حرمه الذي لم يحله لأحد سواه ، فلما قايس بين هذا اليوم وبين يوم { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ }( الأنفال 30 )
فأخرجوه ثاني اثنين .
دخل وذقنه تمس قربوس سرجه ، خضوعاً وذلاً لمن ألبسه ثوب هذا العز الذي رفعت إليه فيه الخليقة رؤوسها ، ومدت
إليه الملوك أعناقها .
فدخل مكة مالكاً مؤيداً منصوراً ، وعلا كعب بلالٍ فوق الكعبة ، بعد أن كان يجر في الرمضاء على جمر الفتنة ، فنسر بزاً طوي
عن القوم من يوم قوله (( أحد أحد )) ورفع صوته بالأذان ، فأجابته القبائل من كل ناحية ، فأقبلوا يؤمون الصوت ، فدخلوا في دين الله
أفواجاً ، وكانوا قبل ذلك يأتون آحادا .
فلما جلس الرسول صلى الله عليه وسلم على منبر العز ، وما نزل عنه قط ، مدت الملوك أعناقها بالخضوع إليه ، فمنهم من سلم إليه مفاتيح البلاد
ومنهم من سأله الموادعه والصلح ومنهم من أقر بالجزية والصغار ، ومنهم من أخذ في الجمع والتأهب للحرب ، ولم يدر أنه لم يزد على جمع الغنائم
وسوق الاسارى إليه .
فلما تكامل نصره ، وبلغ الرسالة ، وأدى الأمانة وجاءه منشور : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًالِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا } ( الفتح 1ـ 3 ) وبعده توقيع : {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } ( النصر 1ـ 2 )
جاءه رسول ربه يخيره بين المقام في الدنيا وبين لقاءه ، فاختار لقاء ربه شوقاً إليه ، فتزينت الجنان ليوم قدوم روحه الكريمة لا كزينة المدينة يوم قدوم المليك ، إذا كان عرش الرحمن قد اهتز لموت بعض أتباعه ، فرحاً واستبشاراً بقدوم روحه ، فكيف بقدوم روح سيد الخلائق ؟؟ فيا منتسباً إلى غير هذا الجناب
ويا واقفاً بغير هذا الباب ، ستعلم يوم الحشر أي سريرة تكون عليها : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [center]